سورة طه - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


قوله: {طه} قرأ بإمالة الهاء وفتح الطاء أبو عمرو وابن أبي إسحاق، وأمالهما جميعاً أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش. وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ الباقون بالتفخيم. قال الثعلبي: وهي كلها لغات صحيحة فصيحة.
وقال النحاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين: الأولى أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة حتى تكون الإمالة، والعلة الثانية أن الطاء من موانع الإمالة.
وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال: الأوّل أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به. والثاني: أنها بمعنى: يا رجل في لغة عكل، وفي لغة عكّ. قال الكلبي: لو قلت لرجل من عك: يا رجل لم يجب حتى تقول: طه، وأنشد ابن جرير في ذلك:
دعوت بطه في القتال فلم يجب *** فخفت عليه أن يكون موائلا
ويروى مزايلاً وقيل: إنها في لغة عكّ بمعنى: يا حبيبي.
وقال قطرب: هي كذلك في لغة طيّ أي بمعنى: يا رجل، وكذلك قال الحسن وعكرمة وقيل: هي كذلك في اللغة السريانية، حكاه المهدوي.
وحكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النبطية، وبه قال السديّ وسعيد بن جبير.
وحكى الثعلبي: عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة، ورواه عن عكرمة، ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صح النقل. القول الثالث: أنها اسم من أسماء الله سبحانه. والقول الرابع: أنها اسم للنبيّ صلى الله عليه وسلم. القول الخامس: أنها اسم للسورة. القول السادس: أنها حروف مقطعة يدل كل واحد منها على معنى. ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدل عليها هذه الحروف على أقوال كلها متكلفة متعسفة. القول السابع: أن معناها: طوبى لمن اهتدى. القول الثامن: أن معناها: طأ الأرض يا محمد. قال ابن الأنباري: وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى التروّح، فقيل له: طأ الأرض، أي لا تتعب حتى تحتاج إلى التروّح.
وحكى القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله: {طه} يعني: طأ الأرض يا محمد، وحكي عن الحسن البصري أنه قرأ: {طه} على وزن دع، أمر بالوطء، والأصل: طأ، فقلبت الهمزة هاء.
وقد حكى الواحدي عن أكثر المفسرين أن هذه الكلمة معناها: يا رجل، يريد النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد ابن جبير والضحّاك، وقتادة ومجاهد وابن عباس في رواية عطاء والكلبي غير أن بعضهم يقول: هي بلسان الحبشة والنبطية والسريانية، ويقول الكلبي: هي بلغة عك.
قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى؛ لأن الله سبحانه لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش. انتهى.
وإذا تقرّر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى واضحة الدلالة خارجة عن فواتح السور التي قدّمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة، وهكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم واستعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة العرب.
وجملة: {مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى} مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، والشقاء يجيء في معنى التعب. قال ابن كيسان: وأصل الشقاء في اللغة: العناء والتعب، ومنه قول الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
والمعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، فهو كقوله سبحانه: {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} [الكهف: 6]. قال النحاس: بعض النحويين يقول: هذه اللام في: {لتشقى} لام النفي، وبعضهم يقول: لام الجحود.
وقال ابن كيسان: هي لام الخفض، وهذا التفسير للآية هو على قول من قال: إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديداً لأسماء الحروف، وإن جعلت اسماً للسورة كان قوله: {مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى} خبراً عنها، وهي في موضع المبتدأ، وأما على قول من قال: إن معناها: يا رجل، أو بمعنى الأمر بوطء الأرض، فتكون الجملة مستأنفة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من المبالغة في العبادة.
وانتصاب {إِلاَّ تَذْكِرَةً} على أنه مفعول له لأنزلنا كقولك: ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقاً عليك.
وقال الزجاج: هو بدل من لتشقى، أي: ما أنزلناه إلا تذكرة. وأنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست بشقاء، قال: وإنما هو منصوب على المصدرية، أي أنزلناه لتذكر به تذكرة، أو على المفعول من أجله، أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به، ما أنزلناه إلا للتذكرة.
وانتصاب {تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الأرض} على المصدرية، أي أنزلناه تنزيلاً. وقيل: بدل من قوله: {تذكرة} وقيل: هو منصوب على المدح. وقيل: منصوب ب {يخشى} أي: يخشى تنزيلاً من الله على أنه مفعول به. وقيل: منصوب على الحال بتأوله باسم الفاعل. وقرأ أبو حيوة الشامي: {تنزيل} بالرفع على معنى هذا تنزيل؛ و{ممن خلق} متعلق ب {تنزيلاً} أو بمحذوف هو صفة له، وتخصيص خلق الأرض والسموات؛ لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عزّ وجلّ، والعلى: جمع العليا، أي المرتفعة كجمع كبرى وصغرى على كبر وصغر.
ومعنى الآية: إخبار العباد عن كمال عظمته سبحانه وعظيم جلاله.
وارتفاع {الرحمن} على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قال الأخفش، ويجوز أن يكون مرتفعاً على المدح أو على الابتداء. وقرئ بالجر، قال الزجاج: على البدل ممن، وجوز النحاس أن يكون مرتفعاً على البدل من المضمر في خلق، وجملة {عَلَى العرش استوى} في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، أو على أنها خبر الرحمن عند من جعله مبتدأ. قال أحمد بن يحيى: قال ثعلب: الاستواء: الإقبال على الشيء، وكذا قال الزجاج والفراء. وقيل: هو كناية عن الملك والسلطان، والبحث في تحقيق هذا يطول، وقد تقدّم البحث عنه في الأعراف. والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستوٍ على عرشه بغير حدّ ولا كيف، وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح الذي يمرون الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تأويل.
{لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} أي أنه مالك كل شيء ومدبره {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات {وَمَا تَحْتَ الثرى} الثرى في اللغة: التراب النديّ، أي ما تحت التراب من شيء. قال الواحدي: والمفسرون يقولون: إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه: {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} الجهر بالقول: هو رفع الصوت به، والسرّ: ما حدّث به الإنسان غيره وأسرّه إليه، والأخفى من السرّ: هو ما حدّث به الإنسان نفسه وأخطره بباله. والمعنى: إن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غنيّ عن ذلك، فإنه يعلم السرّ وما هو أخفى من السرّ، فلا حاجة لك إلى الجهر بالقول، وفي هذا معنى النهي عن الجهر كقوله سبحانه: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]. وقيل: السر ما أسرّ الإنسان في نفسه، والأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه. وقيل: السرّ: ما أضمره الإنسان في نفسه، والأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد، وقيل: السرّ سرّ الخلائق، والأخفى منه: سرّ الله عزّ وجلّ، وأنكر ذلك ابن جرير وقال: إن الأخفى: ما ليس في سرّ الإنسان وسيكون في نفسه.
ثم ذكر أن الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو الله سبحانه المنزه عن الشريك المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى فقال: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسماء الحسنى} فالله خبر مبتدأ محذوف، أي الموصوف بهذه الصفات الكمالية الله، وجملة. {لا إله إلا هو} مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه، أي لا إله في الوجود إلا هو، وهكذا جملة: {له الأسماء الحسنى} مبينة لاستحقاقه تعالى للأسماء الحسنى، وهي التسعة والتسعون التي ورد بها الحديث الصحيح.
وقد تقدم بيانها في قوله سبحانه: {وَللَّهِ الأسماء الحسنى} [الأعراف: 180]. من سورة الأعراف والحسنى تأنيث الأحسن، والأسماء مبتدأ وخبرها الحسنى. ويجوز أن يكون الله مبتدأ وخبره الجملة التي بعده، ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير في يعلم. ثم قرّر سبحانه أمر التوحيد بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة، والخبر الغريب، فقال: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} الاستفهام للتقرير، ومعناه: أليس قد أتاك حديث موسى. وقيل: معناه قد أتاك حديث موسى.
وقال الكلبي: لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك. وفي سياق هذه القصة تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوّة، وتحمل أثقالها ومقاساة خطوبها، وأن ذلك شأن الأنبياء قبله. والمراد بالحديث القصة الواقعة لموسى. و{إِذْ رَأَى نَاراً} ظرف للحديث. وقيل: العامل فيه مقدر، أي اذكر. وقيل: يقدر مؤخراً أي حين رأى ناراً كان كيت وكيت، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافراً إلى أمه بعد استئذانه لشعيب فلما رآها {قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا} والمراد بالأهل هنا: امرأته، والجمع لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم؛ وقيل: المراد بهم المرأة والولد والخادم، ومعنى {امكثوا}: أقيموا مكانكم، وعبر بالمكث دون الإقامة؛ لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك. وقرأ حمزة: {لأهله} بضم الهاء، وكذا في القصص. قال النحاس: وهذا على لغة من قال: مررت بهو يا رجل، فجاء به على الأصل وهو جائز، إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. {إِنّي آنَسْتُ نَاراً} أي أبصرت، يقال: آنست الصوت سمعته، وآنست الرجل: أبصرته. وقيل: الإيناس: الإبصار البين. وقيل: الإيناس مختص بإبصار ما يؤنس. والجملة تعليل للأمر بالمكث، ولما كان الإتيان بالقبس، ووجود الهدى متوقعين بني الأمر على الرجاء، فقال: {لَّعَلّي آتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ} أي أجيئكم من النار بقبس. والقبس: شعلة من النار، وكذا المقباس، يقال: قبست منه ناراً أقبس ناراً قبساً فأقبسني، أي أعطاني وكذا اقتبست. قال اليزيدي: أقبست الرجل علماً وقبسته ناراً، فإن كنت طلبتها له قلت: أقبسته.
وقال الكسائي: أقبسته ناراً وعلماً سواء، قال: وقبسته أيضاً فيهما. {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} أي هادياً يهديني إلى الطريق ويدلني عليها. قال الفراء: أراد هادياً، فذكره بلفظ المصدر، أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف، أي ذا هدى، وكلمة {أو} في الموضعين لمنع الخلوّ دون الجمع، وحرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب مكان إليها.
{فَلَمَّا أتاها نُودِيَ} أي: فلما أتى النار التي آنسها {نُودِيَ} من الشجرة، كما هو مصرّح بذلك في سورة القصص، أي من جهتها، ومن ناحيتها {نُودِيَ ياموسى إِنّي أَنَاْ رَبُّكَ} أي نودي، فقيل: يا موسى.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر وابن محيصن وحميد واليزيدي: {أني} بفتح الهمزة، وقرأ الباقون بكسرها، أي بأني. {فاخلع نَعْلَيْكَ} أمره الله سبحانه بخلع نعليه؛ لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب. وقيل: إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل: معنى الخلع للنعلين: تفريغ القلب من الأهل والمال، وهو من بدع التفاسير، ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال: {إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى} المقدّس: المطهر. والقدس: الطهارة. والأرض المقدّسة: المطهرة؛ سميت بذلك؛ لأن الله أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين، و{طوى} اسم للوادي. قال الجوهري: وطوى: اسم موضع بالشام يكسر طاؤه ويضم، يصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم وادٍ ومكان وجعله نكرة ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة، وقرأ عكرمة: {طوى} بكسر الطاء، وقرأ الباقون بضمها. وقيل: إن طوى كثنى من الطي مصدر لنودي، أو للمقدس، أي نودي نداءين، أو قدس مرة بعد أخرى.
{وَأَنَا اخترتك} قرأ أهل المدينة، وأهل مكة وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي {وأنا اخترتك} بالإفراد. وقرأ حمزة: {وإنا اخترناك} بالجمع. قال النحاس: والقراءة الأولى أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام لقوله: {ياموسى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} ومعنى {اخترتك}: اصطفيتك للنبوّة والرسالة، والفاء في قوله: {فاستمع لِمَا يُوحَى} لترتيب ما بعدها على ما قبلها و{ما} موصولة أو مصدرية، أي فاستمع للذي يوحى إليك، أو للوحي، وجملة {إِنَّنِى أَنَا الله} بدل من ما في: {لما يوحى}. ثم أمره سبحانه بالعبادة، فقال: {فاعبدنى} والفاء هنا كالفاء التي قبلها؛ لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة {وأقم الصلاة لذكري} خصّ الصلاة بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة، وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله: {لذكري} أي لتذكرني فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو المعنى: لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار، أو المعنى: أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة. وقيل: المعنى: لأذكرك بالمدح في عليين، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول.
وجملة {إِنَّ الساعة ءَاتِيَةٌ} تعليل لما قبلها من الأمر، أي إن الساعة التي هي وقت الحساب والعقاب آتية، فاعمل الخير من عبادة الله والصلاة.
ومعنى {أَكَادُ أُخْفِيهَا}: مختلف فيه. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: أخفيها من نفسي، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة.
وقال المبرد وقطرب: هذا على عادة مخاطبة العرب يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي، أي لم أطلع عليه أحداً؛ ومعنى الآية: أن الله بالغ في إخفاء الساعة، فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب.
وقد روي عن سعيد بن جبير أنه قرأ: {أخفيها} بفتح الهمزة، ومعناه: أظهرها. وكذا روى أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وفاء بن إياس عن سعيد ابن جبير. قال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قال القرطبي: وكذا رواه ابن الأنباري في كتاب الردّ قال: حدّثني أبي، حدّثنا محمد بن الجهم، حدثنا الفراء حدثنا الكسائي فذكره. قال النحاس: وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ: {أخفيها} بضم الهمزة. قال ابن الأنباري: قال الفراء: ومعنى قراءة الفتح: أكاد أظهرها، من خفيت الشيء: إذا أظهرته أخفيه. قال القرطبي: وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون {أخفيها} بضم الألف معناه: أظهرها؛ لأنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار. قال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد. قال النحاس: وهذا حسن، وقد أنشد الفراء وسيبويه ما يدل على أن معنى أخفاه أظهر، وذلك قول امرئ القيس:
فإن تكتموا الداء لا نخفه *** وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أي: وإن تكتموا الداء لا نظهره.
وقد حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنه بضم النون من نخفه، وقال: امرؤ القيس:
خفاهن من أنفاقهن كأنما *** خفاهن ودق من عشيّ مُجَلَّب
أي أظهرهن.
وقد زيف النحاس هذا القول وقال: ليس المعنى على أظهرها، ولا سيما و{أخفيها} قراءة شاذة، فكيف تردّ القراءة الصحيحة الشائعة.
وقال ابن الأنباري: في الآية تفسير آخر، وهو أن الكلام ينقطع على: {أكاد} وبعده مضمر، أي أكاد آتي بها، ووقع الابتداء بأخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، ومثله قول عمير بن ضابئ البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني *** تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أفعل. واختار هذا النحاس.
وقال أبو عليّ الفارسي: هو من باب السلب وليس من الأضداد، ومعنى أخفيها: أزيل عنها خفاءها، وهو سترها، ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه.
وحكى أبو حاتم عن الأخفش أن أكاد زائدة للتأكيد، قال: ومثله {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، ومثله قول الشاعر:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه *** فما أن يكاد قرنه يتنفس
قال: والمعنى: أكاد أخفيها؛ أي أقارب ذلك، لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام وأن يكون لم يقم، ودلّ على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا. وقوله: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} متعلق بآتية، أو بأخفيها، و{ما} مصدرية، أي لتجزى كل نفس بسعيها. والسعي وإن كان ظاهراً في الأفعال، فهو هنا يعمّ الأفعال والتروك؛ للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به.
{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} أي لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة، والتصديق بها، أو عن ذكرها ومراقبتها {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} من الكفرة، وهذا النهي وإن كان للكافر بحسب الظاهر، فهو في الحقيقة نهي له صلى الله عليه وسلم عن الانصداد، أو عن إظهار اللين للكافرين فهو من باب: لا أرينك ها هنا، كما هو معروف. وقيل: الضمير في: {عنها} للصلاة وهو بعيد، وقوله: {واتبع هَوَاهُ} معطوف على ما قبله، أي من لا يؤمن، ومن اتبع هواه أي هوى نفسه بالانهماك في اللذات الحسية الفانية {فتردى} أي فتهلك؛ لأن انصدادك عنها بصدّ الكفارين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له.
وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، وابن عساكر عن ابن عباس؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أوّل ما نزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى، فأنزل الله: {طه * مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى}.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال: قالوا لقد شقي هذا الرجل بربه، فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج ابن عساكر عنه أيضاً قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل لئلا ينام، فأنزل الله هذه الآية».
وأخرج البزار عن عليّ قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت: {مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى}» وحسن السيوطي إسناده.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً بأطول منه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قرأ القرآن إذا صلى، فقام على رجل واحدة، فأنزل الله: {طه} برجليك فما أنزلنا عليك القرآن لتشقى.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه في قوله: {طه} قال: يا رجل.
وأخرج الحارث بن أبي أسامة وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {طه} بالنبطية، أي طأ يا رجل.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو كقولك: اقعد.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال: {طه} بالنبطية: يا رجل.
وأخرج ابن جرير عنه قال: {طه}: يا رجل بالسريانية.
وأخرج الحاكم عنه أيضاً قال: {طه} هو كقولك: يا محمد بلسان الحبش. وفي هذه الروايات عن ابن عباس اختلاف وتدافع.
وأخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لي عند ربي عشرة أسماء»، قال أبو الطفيل: حفظت منها ثمانية: محمد، وأحمد، وأبو القاسم، والفاتح، والخاتم، والماحي، والعاقب، والحاشر. وزعم سيف أن أبا جعفر قال له الاسمان الباقيان: طه ويس.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {طه * مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى} قال: يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وكان يقوم الليل على رجليه فهي لغة لعك إن قلت لعكي: يا رجل، لم يلتفت، وإذا قلت طه، التفت إليك.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: {طه} قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَمَا تَحْتَ الثرى} قال: الثرى: كل شيء مبتل.
وأخرج أبو يعلى عن جابر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل ما تحت هذه الأرض؟ قال: «الماء، قيل: فما تحت الماء؟ قال: ظلمة قيل: فما تحت الظلمة؟ قال: الهواء قيل: فما تحت الهواء؟ قال: الثرى قيل: فما تحت الثرى؟ قال: انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق».
وأخرج ابن مردويه عنه نحوه بأطول منه.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: و{يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} قال: السرّ ما أسرّه ابن آدم في نفسه، وأخفى: ما خفي عن ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله، فإنه يعلم ذلك كله فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة وهو كقوله: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} [لقمان: 28].
وأخرج الحاكم وصححه عنه في الآية قال: السرّ: ما علمته أنت، وأخفى: ما قذف الله في قلبك مما لم تعلمه.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي بلفظ: يعلم ما تسرّ في نفسك ويعلم ما تعمل غداً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} يقول: من يدلّ على الطريق.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عليّ في قوله: {فاخلع نَعْلَيْكَ} قال: كانتا من جلد حمار ميت فقيل له: اخلعهما.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {إِنَّكَ بالواد المقدس} قال المبارك: {طوى} قال: اسم الوادي.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه {بالواد المقدس طُوًى} يعني: الأرض المقدسة، وذلك أنه مرّ بواديها ليلاً فطوى يقال: طويت وادي كذا وكذا.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: {طُوًى} قال: طإ الوادي.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: {أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِى}».
وأخرج الترمذي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: {أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِي}» وكان ابن شهاب يقرؤها: {للذكرى}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} قال: لا أظهر عليها أحداً غيري.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} من نفسي.


قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} قال الزجاج والفراء: إن {تلك} اسم ناقص وصلت {بيمينك} أي ما التي بيمينك؟ وروي عن الفراء أنه قال: تلك بمعنى هذه، ولو قال: ما ذلك لجاز، أي ما ذلك الشيء؟ وبالأوّل قال الكوفيون. قال الزجاج: ومعنى سؤال موسى عمّا في يده من العصا التنبيه له عليها لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها. قال الفراء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى: هي عصاي لتثبيت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل، ومحل {ما} الرفع على الابتداء، و{تلك} خبره، و{بيمينك} في محل نصب على الحال إن كانت تلك اسم إشارة على ما هو ظاهر اللفظ، وإن كانت اسماً موصولاً كان {بيمينك} صلة للموصول.
{قَالَ هِيَ عَصَايَ} قرأ ابن أبي إسحاق: {عصى} على لغة هذيل. وقرأ الحسن: {عَصَايَ} بكسر الياء لالتقاء الساكنين {أتوكأ عليها} أي أتحامل عليها في المشي وأعتمدها عند الإعياء والوقوف، ومنه الاتكاء. {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} هش بالعصا يهش هشاً: إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق. قال الشاعر:
أهش بالعصا على أغنامي *** من ناعم الأوراك والشام
وقرأ النخعي {أهس} بالسين المهملة، وهو زجر الغنم، وكذا قرأ عكرمة، وقيل: هما لغتان لمعنى واحد {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} أي حوائج، واحدها مَأْرَبَة ومَأْرُبُة ومأربة مثلث الراء، كذا قال ابن الأعرابي وقطرب، ذكر تفصيل منافع العصا، ثم عقبه بالإجمال.
وقد تعرّض قوم لتعداد منافع العصا، فذكروا من ذلك أشياء منها قول بعض العرب: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدّها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي، ليتسع خطوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وألقي عليها كسائي، فتقيني الحرّ، وتدفيني من القرّ، وتدني إليّ ما بعد مني وهي تحمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بنيّ. انتهى.
وقد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين، وذكر فيه أخباراً وأشعاراً وفوائد لطيفة ونكتاً رشيقة.
وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به من كيد السحرة ومعرّة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنزته، وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب.
{قَالَ أَلْقِهَا ياموسى} هذه جملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة {فألقاها} موسى على الأرض {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى، أي تمشي بسرعة وخفة، قيل: كانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فما وباقيها جسم حية، تنتقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها، فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبراً ولم يعقب، فعند ذلك {قَالَ} سبحانه: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} قال الأخفش والزجاج: التقدير: إلى سيرتها، مثل: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]. قال: ويجوز أن يكون مصدراً؛ لأن معنى سنعيدها: سنسيرها، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، أي سائرة، أو بمعنى اسم المفعول، أي مسيرة. والمعنى: سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوية. قيل: إنه لما قيل له: {لا تخف} بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحيها.
{واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} قال الفراء والزجاج: جناح الإنسان عضده، وقال قطرب: جناح الإنسان جنبه. وعبر عن الجنب بالجناح؛ لأنه في محل الجناح، وقيل: إلى بمعنى مع، أي مع جناحك، وجواب الأمر {تَخْرُجْ بَيْضَاء} أي تخرج يدك حال كونها بيضاء، ومحل {مِنْ غَيْرِ سُوء} النصب على الحال، أي كائنة من غير سوء. والسوء: العيب، كني به عن البرص، أي تخرج بيضاء ساطعاً نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس من غير برص. وانتصاب {آيةً أُخْرَى} على الحال أيضاً، أي معجزة أخرى غير العصا.
وقال الأخفش: إن آية منتصبة على أنها بدل من بيضاء. قال النحاس: وهو قول حسن.
وقال الزجاج: المعنى: آتيناك أو نؤتيك آية أخرى لأنه لما قال: {تَخْرُجْ بَيْضَاء} دلّ على أنه قد آتاه آية أخرى، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى} قيل: والتقدير: فعلنا ذلك لنريك، و{من آياتنا} متعلق بمحذوف وقع حالاً، و{الكبرى} معناها: العظمى، وهو صفة لموصوف محذوف، والتقدير: لنريك من آياتنا الآية الكبرى، أي لنريك بهاتين الآيتين يعني: اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى، فلا يلزم أن تكون اليد هي الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط بخلاف العصا، فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة.
ثم صرّح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات، فقال: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ} وخصه بالذكر؛ لأن قومه تبع له، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُ طغى} أي عصى وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحدّ، وجملة {قَالَ رَبّ اشرح لِي صَدْرِي} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قال؟ ومعنى شرح الصدر: توسيعه، تضرّع عليه السلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى} [الشعراء: 13]، ومعنى تيسير الأمر: تسهيله. {واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى} يعني: العجمة التي كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل، أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه، قيل: أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها بدليل قوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى}. وقيل: لم تذهب كلها؛ لأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية، بل سأل حلّ عقدة تمنع الإفهام بدليل قوله: {مّن لّسَانِي} أي كائنة من عقد لساني، ويؤيد ذلك قوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً} [القصص: 34]، وقوله حكاية عن فرعون: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]، وجواب الأمر قوله: {يَفْقَهُواْ قَوْلِي} أي يفهموا كلامي، والفقه في كلام العرب: الفهم، ثم خص به علم الشريعة والعالم به فقيه، قاله الجوهري.
{واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِي} الوزير: الموازر، كالأكيل المواكل، لأنه يحمل عن السلطان وزره، أي ثقله. قال الزجاج: واشتقاقه في اللغة من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم به لينج من الهلكة. والوزير: الذي يعتمد الملك على رأيه في الأمور ويلتجئ إليه.
وقال الأصمعي: هو مشتق من الموازرة، وهي المعاونة. وانتصاب {وزيراً} و{هارون} على أنهما مفعولا اجعل، وقيل: مفعولاه: لي وزيراً، ويكون هارون عطف بيان للوزير، والأوّل أظهر، ويكون لي متعلقاً بمحذوف، أي: كائناً لي، و{من أهلي} صفة ل {وزيراً}، وأخي بدل من هارون. قرأ الجمهور: {اشدد} بهمزة وصل، و{أشركه} بهمزة قطع كلاهما على صيغة الدعاء، أي يا رب أحكم به قوّتي واجعله شريكي في أمر الرسالة، والأزر: القوة، يقال: آزره، أي قوّاه. وقيل: الظهر، أي أشدد به ظهري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحارث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق {أشدد} بهمزة قطع {وأشركه} بضم الهمزة، أي أشدد أنا به أزري وأشركه أنا في أمري. قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جواباً لقوله: {اجعل لي وزيراً}، وقرأ بفتح الياء من: {أخي} ابن كثير وأبو عمرو. {كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} هذا التسبيح والذكر هما الغاية من الدعاء المتقدّم. والمراد التسبيح هنا باللسان. وقيل: المراد به: الصلاة، وانتصاب {كثيراً} في الموضعين على أنه نعت مصدر محذوف، أو لزمان محذوف {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} البصير المبصر والبصير العالم بخفيات الأمور، وهو المراد هنا، أي إنك كنت بنا عالماً في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا أيضاً كذلك الآن.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في عصا موسى قال: أعطاه ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل، ويضرب بها الأرض فتخرج له النبات، ويهشّ بها على غنمه ورق الشجر.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى} قال: أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلِىَ فِيهَا مَآرِبُ} قال: حوائج.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ نحوه.
وأخرج أيضاً عن قتادة قال: كانت تضيء له بالليل، وكانت عصا آدم عليه السلام.
وأخرج أيضاً عن ابن عباس في قوله: {فألقاها فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} قال: ولم تكن قبل ذلك حية فمرّت بشجرة فأكلتها، ومرّت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً، فنودي أن يا موسى خذها، فلم يأخذها، ثم نودي الثانية: أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين فأخذها.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه: {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} قال: حالتها الأولى.
وأخرجا عنه أيضاً: {مِنْ غَيْرِ سُوء} قال: من غير برص.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {واجعل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي * هارون أَخِي} قال: كان أكبر من موسى.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} قال: نبئ هارون ساعتئذٍ حين نبئ موسى.


لما سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح صدره وييسر له أمره ويحلل عقدة من لسانه ويجعل له وزيراً من أهله أخبره الله سبحانه بأنه قد أجاب ذلك الدعاء، فقال: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} أي: أعطيت ما سألته، والسؤل المسؤول، أي المطلوب، كقولك: خبر بمعنى مخبور، وزيادة قوله: {يا موسى} لتشريفه بالخطاب مع رعاية الفواصل، وجملة: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} كلام مستأنف لتقوية قلب موسى بتذكيره نعم الله عليه، والمنّ: الإحسان والإفضال، والمعنى: ولقد أحسنا إليك مرّة أخرى قبل هذه المرّة، وهي حفظ الله سبحانه له من شرّ الأعداء كما بينه سبحانه ها هنا، وأخرى تأنيث آخر بمعنى غير.
{إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى} أي مننا ذلك الوقت وهو وقت الإيحاء، فإذ ظرف للإيحاء، والمراد بالإيحاء إليها: إما مجرّد الإلهام لها، أو في النوم بأن أراها ذلك، أو على لسان نبيّ، أو على لسان ملك، لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم، أو بإخبار الأنبياء المتقدمين بذلك وانتهى الخبر إليها، والمراد بما يوحى: ما سيأتي من الأمر لها، أبهمه أوّلاً، وفسّره ثانياً؛ تفخيماً لشأنه، وجملة: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت} مفسرة؛ لأن الوحي فيه معنى القول، أو مصدرية على تقدير بأن اقذفيه، والقذف ها هنا: الطرح، أي اطرحيه في التابوت وقد مرّ تفسير التابوت في البقرة في قصة طالوت {فاقذفيه فِي اليم} أي اطرحيه في البحر، واليم: البحر أو النهر الكبير. قال الفراء: هذا أمر وفيه المجازاة، أي اقذفيه يلقه اليم بالساحل، والأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة من يفهم ويميز، لما كان إلقاؤه إياه بالساحل أمراً واجب الوقوع. والساحل: هو شط البحر، سمي ساحلاً، لأن الماء سحله، قاله ابن دريد. والمراد هنا: ما يلي الساحل من البحر لا نفس الساحل، والضمائر هذه كلها لموسى لا للتابوت، وإن كان قد ألقي معه لكن المقصود هو موسى مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له، وجملة: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} جواب الأمر بالإلقاء، والمراد بالعدوّ: فرعون، فإن أمّ موسى لما ألقته في البحر، وهو النيل المعروف، وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى داره، فأخذ التابوت فوجد موسى فيه؛ وقيل: إن البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه. وقيل: وجدته ابنة فرعون، والأوّل أولى.
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} أي ألقى الله على موسى محبة كائنة منه تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه. وقيل: جعل عليه مسحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه.
وقال ابن جرير: المعنى وألقيت عليك رحمتي.
وقيل: كلمة {من} متعلقة ب {ألقيت}، فيكون المعنى: ألقيت مني عليك محبة أي أحببتك، ومن أحبه الله أحبه الناس. {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} أي ولتربى وتغذى بمرأى مني، يقال: صنع الرجل جاريته: إذا رباها، وصنع فرسه: إذا داوم على علفه والقيام عليه، وتفسير {على عَيْنِي}: بمرأى مني صحيح. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة، ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى، فإن جميع الأشياء بمرآى من الله.
وقال أبو عبيدة وابن الأنباري: إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي، تقول: أتخذ الأشياء على عيني، أي على محبتي. قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار، من قول العرب: غدا فلان على عيني، أي على المحبة مني. قيل: واللام متعلقة بمحذوف، أي فعلت ذلك لتصنع، وقيل: متعلقة ب {ألقيت}، وقيل: متعلقة بما بعده، أي ولتصنع على عيني قدّرنا مشي أختك. وقرأ ابن القعقاع: {ولتصنع} بإسكان اللام على الأمر، وقرأ أبو نهيك بفتح التاء. والمعنى: ولتكون حركتك وتصرّفك بمشيئتي، وعلى عين مني.
{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} ظرف لألقيت، أو لتصنع، ويجوز أن يكون بدلاً من {إِذْ أَوْحَيْنَا} وأخته اسمها مريم {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} وذلك أنها خرجت متعرّفة لخبره، فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة، فقالت لهما هذا القول، أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه؟ فقالا لها: ومن هو؟ قالت: أمي، فقالا: هل لها لبن؟ قالت: نعم لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل: بأكثر، فجاءت الأم فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها، وهذا هو معنى: {فرجعناك إلى أُمّكَ} وفي مصحف أبيّ: {فرددناك}، والفاء فصيحة. {كَي تَقَرَّ عَيْنُها} قرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد عنه: {كي تقرّ} بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها. قال الجوهري: قررت به عيناً قرّة وقروراً، ورجل قرير العين، وقد قرّت عينه تقرّ وتقرّ، نقيض سخنت، والمراد بقرّة العين: السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم عليها فراقه. {وَلاَ تَحْزَنْ} أي لا يحصل لها ما يكدّر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرّت عينها بزواله لقدّم نفي الحزن على قرّة العين، فيحمل هذا النفي للحزن على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك، ويمكن أن يقال: إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين. وقيل: المعنى: ولا تحزن أنت يا موسى بفقد إشفاقها، وهو تعسف {وَقَتَلْتَ نَفْساً} المراد بالنفس هنا: نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، وكان قتله له خطأ {فنجيناك مِنَ الغم} أي الغمّ الحاصل معك من قتله خوفاً من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعاً؛ وقيل: الغمّ هو القتل بلغة قريش، وما أبعد هذا {وفتناك فُتُوناً} الفتنة تكون بمعنى المحنة، وبمعنى الأمر الشاقّ، وكل ما يبتلى به الإنسان.
والفتون يجوز أن يكون مصدراً كالثبور والشكور والكفور، أي ابتليناك ابتلاءً، واختبرناك اختباراً، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور في حجرة وبدور في بدرة، أي خلصناك مرّة بعد مرّة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته. ولعلّ المقصود بذكر تنجيته من الغمّ الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو: الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له، وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} قال الفراء: تقدير الكلام: وفتناك فتوناً، فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين، ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل، وكذا في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيراً من الكلام إذا كان المعنى معروفاً. ومدين هي بلد شعيب، وكانت على ثماني مراحل من مصر، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين، وهي أتمّ الأجلين. وقيل: أقام عند شعيب ثمان وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له، والفاء في: {فَلَبِثْتَ} تدل على أن المراد بالمحن المذكورة: هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبياً، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به. قال الشاعر:
نال الخلافة إذ كانت له قدرا *** كما أتى ربه موسى على قدر
وكلمة: {ثم} المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدّة، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرّق غنمه ونحو ذلك. {واصطنعتك لِنَفْسِي} الاصطناع: اتخاذ الصنعة، وهي الخير تسديه إلى إنسان، والمعنى: اصطنعتك لوحيي ورسالتي لتتصرّف على إرادتي. قال الزجاج: تأويله اخترتك لإقامة حجتي، وجعلتك بيني وبين خلقي، وصرت بالتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم. قيل: وهو تمثيل لما خوّله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه. {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} أي وليذهب أخوك، وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع، ومعنى {بآياتي}: بمعجزاتي التي جعلتها لك آية، وهي التسع الآيات. {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} أي لا تضعفا ولا تفترا، يقال: ونى يني ونياً: إذا ضعف. قال الشاعر:
فما ونى محمد مذ أن غفر *** له الإله ما مضى وما غبر
وقال امرؤ القيس:
يسيح إذا ما السابحات على الوني *** أثرن غباراً بالكديد الموكل
قال الفراء: في ذكري وعن ذكري سواء، والمعنى: لا تقصرا عن ذكري بالإحسان إليكما، والإنعام عليكما وذكر النعمة شكرها. وقيل: معنى {لا تنيا}: لا تبطئا في تبليغ الرسالة، وفي قراءة ابن مسعود: {لا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}.
{اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} هذا أمر لهما جميعاً بالذهاب، وموسى حاضر وهارون غائب تغليباً لموسى؛ لأنه الأصل في أداء الرسالة، وعلل الأمر بالذهاب بقوله: {إِنَّهُ طغى} أي جاوز الحدّ في الكفر والتمرّد، وخص موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدّم، وجمعهما هنا تشريفاً لموسى بإفراده، وتأكيداً للأمر بالذهاب بالتكرير. وقيل: إن في هذا دليلاً على أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل الأوّل: أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس، والثاني: أمر لهما بالذهاب إلى فرعون. ثم مرهما سبحانه بإلانة القول له لما في ذلك من التأثير في الإجابة، فإن التخشين بادئ ذي بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر، والقول اللين: هو الذي لا خشونة فيه، يقال: لان الشيء يلين ليناً، والمراد: تركهما للتعنيف، كقولهما: {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} [النازعات: 18]. وقيل: القول اللين هو الكنية له، وقيل: أن يعداه بنعيم الدنيا إن أجاب، ثم علل الأمر بإلانة القول له بقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} أي باشرا ذلك مباشرة من يرجو ويطمع، فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحويين: سيبويه وغيره.
وقد تقدّم تحقيقه في غير موضع قال الزجاج: (لَعَلَّ) لفظة طمع وترج، فخاطبهم بما يعقلون. وقيل: لعلّ ها هنا بمعنى الاستفهام. والمعنى: فانظرا هل يتذكر أو يخشى؟ وقيل: بمعنى كي. والتذكر: النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك سبباً في الإجابة، والخشية هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما، وكلمة {أو} لمنع الخلوّ دون الجمع.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله: {فاقذفيه فِي اليم} قال: هو النيل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّي} قال: كان كل من رآه ألقيت عليه منه محبته.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل قال: حببتك إلى عبادي.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني في قوله: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي} قال: تربى بعين الله.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: لتغذى على عيني.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يقول أنت بعيني، إذ جعلتك أمك في التابوت، ثم في البحر، وإذ تمشي أختك.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ» يقول الله سبحانه: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم} قال: «من قتل النفس» {وفتناك فُتُوناً} قال: «أخلصناك إخلاصاً».
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وفتناك فُتُوناً} قال: ابتليناك ابتلاءً.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: اختبرناك اختباراً.
وقد أخرج عبد بن حميد، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أثراً طويلاً في تفسير الآية، فمن أحبّ استيفاء ذلك فلينظره في كتاب التفسير من سنن النسائي.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ} قال: لميقات.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد وقتادة {على قَدَرٍ} قال: موعد.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَلاَ تَنِيَا} قال: لا تبطئا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ في قوله: {قَوْلاً لَّيّناً} قال: كنَّه.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: كنياه.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} قال: هل يتذكر؟

1 | 2 | 3 | 4